بين الدخان واللامبالاة.. قابس تختنق والسكان يطلقون صرخة بيئية من أجل الحياة
بين الدخان واللامبالاة.. قابس تختنق والسكان يطلقون صرخة بيئية من أجل الحياة
في مشهد إنساني يتجاوز حدود الاحتجاج، خرج عشرات المواطنين التونسيين، أمس الأربعاء، إلى شوارع العاصمة للمطالبة بإنقاذ ولاية قابس من التلوث الذي يخنقها منذ أكثر من نصف قرن.
جاءت هذه التظاهرة التي دعت إليها جمعية “دار قابس” بوصفها جزءاً من تحرك شعبي متصاعد يطالب بتفكيك الوحدات الصناعية التابعة للمجمع الكيميائي ونقلها خارج المناطق السكنية، بعد أن تحوّلت إلى مصدر دائم للأمراض والموت البطيء لسكان المنطقة، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA".
ورفع المتظاهرون لافتات كتبت عليها شعارات موجعة مثل: "قابس تختنق"، "نحب نعيش"، و"أوقفوا التلوث"، في تعبير صريح عن معاناة سكان المدينة الواقعة جنوب شرقي تونس، والتي تحولت من منطقة خضراء إلى بؤرة خانقة بفعل الانبعاثات السامة والغازات الملوثة.
وطالب المحتجون السلطات بالتحرك العاجل لإيجاد حل جذري يتمثل في نقل الوحدات الصناعية بالكامل، مؤكدين أن بقاء المجمع في قابس لم يعد ممكناً في ظل الأضرار الصحية والبيئية المتفاقمة.
فعلى مدى أكثر من 53 عاماً، ظل المجمع الكيميائي رمزاً للتلوث، حيث أدت مداخنه إلى تدهور جودة الهواء وتسميم البحر بكميات هائلة من مادة الفوسفوجيبس التي تُصرف يومياً في المياه، مدمّرة بذلك الحياة البحرية ومتسببة في أمراض تنفسية وجلدية خطِرة.
نداء المحتجين.. أوقفوا التلوث
قالت الناشطة هناء نجيمة من حراك "أوقفوا التلوث" إن اختيار يوم عيد الجلاء لتنظيم التظاهرة لم يكن مصادفة، بل رغبة في تحويله إلى "يوم جلاء بيئي" يرمز إلى التحرر من قبضة التلوث.
وأكدت أن مطالب أهالي قابس واضحة ومعروفة لدى الجميع: "نريد بيئة نظيفة وهواءً نقياً، فقد أصبحت حالات الاختناق في المدارس والمنازل جزءاً من حياتنا اليومية". وأضافت أن السلطات ترد على التحركات السلمية بالغاز المسيل للدموع بدل معالجة أصل المشكلة.
وشددت على أن "ما يحدث في قابس هو جريمة دولة متواصلة"، متسائلة عن غياب الأوكسجين في المستشفيات لإنقاذ الأطفال المصابين بالاختناق، معتبرة أن الوضع بلغ مرحلة الخطر الوجودي على حياة السكان.
نساء في مواجهة الموت
أكدت الناشطة الحقوقية نجاة عرعاري أن دعم نساء قابس واجب إنساني، إذ إنهنّ من أكثر الفئات تضرراً من الأزمة البيئية التي تمسّ جوهر حقوق الإنسان، مثل الحق في الصحة، والأمن الغذائي، والعيش الكريم.
وأوضحت أن دراسات علمية أثبتت ارتفاع معدلات الإصابة بالعقم والإجهاض والأمراض السرطانية والرئوية في قابس، مشيرة إلى أن هذه النتائج تمثل "دليلاً قاطعاً على التدمير المنهجي لصحة السكان بفعل التلوث الصناعي".
وأضافت أن "الصمت الرسمي هو شكل من أشكال التواطؤ، فحياة الإنسان مقدسة ولا يمكن المقايضة بها تحت شعار حماية الوظائف في المجمع الكيميائي".
تهديد يتجاوز حدود قابس
من جانبها، حذّرت الناشطة نايلة الزغلامي، الرئيسة السابقة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، من أن خطر التلوث في قابس يمتد لمسافة تصل إلى 500 كيلومتر، ما يعني أن سموم المجمع الكيميائي لا تهدد سكان الجنوب وحدهم، بل الشعب التونسي بأسره.
وقالت الزغلامي: "قابس أصبحت موبوءة بأمراض قاتلة، والنساء والأطفال هم الضحايا الأوائل، والدولة لا يمكنها الاستمرار في تجاهل هذا الخطر الداهم".
وشددت على أن هذه التحركات لم تعد مجرد احتجاجات ظرفية، بل صرخة حياة ضد الإهمال البيئي، داعية إلى فتح تحقيق وطني شامل، وإلى إعلان حالة طوارئ بيئية في الجنوب التونسي قبل فوات الأوان.
وتعكس احتجاجات قابس معركة شعبية من أجل البقاء، إذ لم تعد المسألة مجرد تلوث صناعي، بل صراع من أجل الحق في الحياة، وبين مداخن المصانع وأنين الأطفال في المستشفيات، تظل قابس شاهدة على واحدة من أسوأ الكوارث البيئية في شمال إفريقيا، بانتظار قرار سياسي شجاع يضع الإنسان فوق كل اعتبار.